آخر المقالات

يعقوب القرقساني وكتابه الأنوار والمراقب (1) Ya'qub al-Qirqisani

عدد مشاهدات الموضوع:

 

المقالة الخامسة، نهاية الباب الثالث (في قول الربانيين في ختانة الميت والرد عليهم)
(The British Library, Or. 2579)


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد ..،

ذكر ابن حزم –رحمه الله– (384هـ / 994م، قرطبة – 456هـ / 1064م، ولبة) في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" (1/178 – ط. دار الجيل) أن اليهود قد افترقوا على خمس فرق، وهي: السَّامِريَّة، والصدوقية، والعنانية، والربانية (وهم جمهور اليهود)، والعيسوية. وبين أن العنانية هم أصحاب "عانان" الداودي اليهودي، ويسمون "القرائين"، وهم لا يتعدون شرائع السبت، وما جاء في كتب الأنبياء –عليهم السلام–، ويتبرؤون من قول الأحبار ويكذبونهم. وذكر أنهم فرقة موجودة بالعراق ومصر والشام، وهم من الأندلس.

نتناول في هذه السطور أحد أبرز علماء اليهود القرائين في القرن العاشر الميلادي؛ ألا وهو "يعقوب القرقساني". فنبدأ بنبذة عن حياته، ثم ننتقل إلى بيان مؤلفاته وملامح فكره الديني. ويُفرد الحديث بعدها عن كتاب "الأنوار والمراقب" من حيث: الاهتمام العلمي بالكتاب، والتعريف به وبمضمونه، وأخيرًا الأثر الإسلامي فيه. ولا يفوتنا إرشاد القارئ الكريم إلى قائمة إثرائية في هذا الشأن، يمكنه من خلالها التوسع والاستزادة.

أولًا: تعريف بالقرقساني:

هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القرقساني، متكلم يهودي كان معاصرًا للحبر اليهودي سعيد بن يوسف الفيومي (268هـ / 882م، الفيوم – 331هـ / 942م، بغداد). لا يُعرف عن حياة القرقساني سوى القليل، ولكن تجمع المصادر على أنه من أبرز علماء اليهود القرائين في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي. استُنتج من لقبه أنه قد ولد في شرق سوريا في بلدة تسمى "قرقيسيا al-Qarqisiya" (الْبُصَيْرَة / كركيسيوم Circesium)، وهي بلدة كانت تقع في بلاد ما بين النهرين العليا عند مصب نهر الخابور في نهر الفرات (وهي اليوم أطلال أثرية قرب مدينة دير الزور السورية)، أو أنه قد وُلد في "قرقاسان Karkasān"، وهي بلدة صغيرة تقع بالقرب من بغداد.

ويذكر السمعاني (506هـ / 1113م – 562هـ / 1167م) في الأنساب (10/384) أن نسبة القَرقساني هذه إنما هي نسبة إلى قرقيسيا، وهي بلدة بالجزيرة على ست فراسخ من رحبة مالك بن طوق بن عتاب التغلبي على نهر الفرات، قريبة من الرقة، والنسبة إليها بإثبات النون وإسقاطها، والقائل بالنون وإثباتها أكثر حتى اشتهر بذلك.

وعلى الرغم من كون القرقساني حبرًا ذا مكانة فكرية بارزة، يبدو أنه لم يحظ بشعبية كبيرة بين أحبار اليهود المعاصرين له. فلا يوجد دليل على وجود ترجمة عبرية لأي من كتاباته، كما أن المؤلفات العربية المعاصرة له لا تعكس إلمامًا واسعًا بعمله. ومع ذلك، فإن السياق التاريخي لكتابات القرقساني أمر بالغ الأهمية؛ ذلك أن ثمة إجماعًا بين الباحثين على أن القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين يعدان "العصر الذهبي للقرائين"؛ إذ إن المؤلفين القرائين قد أنتجوا خلال هذه الفترة عددًا لا مثيل له من الكتابات عن اللاهوت، والفلسفة، والشريعة اليهودية.

قام القرقساني –شأنه في ذلك شأن العلماء آنذاك– بأسفار متعددة في بلاد فارس والعراق وغيرها، كما زار مراكز التعلم الإسلامي؛ فكان على دراية جيدة بما يحدث من حركة فكرية ومن مناقشات وسجالات بين المسلمين. واستندت كتاباته إلى الخبرة الشخصية بسبب سفرياته في بلاد الهند؛ فيذكر ذلك في كتابه الأنوار والمراقب عند حديثه عن السجود للبشر والأوثان؛ إذ يقول "وقد شاهدنا أيضا مثل ذلك في بلدان الهند". ولا شك أن سهولة تنقل القرقساني ترجع إلى أنه لم تكن توجد أي حواجز أو معوقات بين الدول الإسلامية في ذلك الوقت، وتظهر مدى الحرية التي كان يتمتع بها المواطنون على اختلاف مللهم وأديانهم، بما في ذلك أهل الكتاب في تنقلهم داخل حدود بلاد المسلمين. على أن القرقساني لا يذكر دوافع سفره إلى هذه البلدان، ولا الهدف منها، ولكن يبدو أنها لا تختلف عن الأسفار التي كان يقوم بها العلماء المسلمون من أجل الإفادة والمعرفة؛ لا سيما وأن أثر تلك الأسفار يظهر في كتابه الموسوعي "الأنوار والمراقب".

وقد كتب القرقساني عن وجود علاقات شخصية تربطه بشخصيات دينية من مختلف المعتقدات الدينية الأخرى، مثل "يعقوب بن إفرايم"، اليهودي الرباني، و"يسوع سيخا/سيكسا" (Jesus Sexa)، الأسقف أو الشماس المسيحي. كما كان يشير إلى شخصيات إسلامية. فمثلًا يذكر المؤرخ والقاضي "محمد بن عمر الواقدي"، صاحب المغازي، ويذكر أيضًا المتكلم المعتزلي "أبا الهذيل العلاف". ويشير كذلك إلى بعض الفرق الإسلامية، ويذكر أسماءها.

 

 يُتبع (ثانيًا: مؤلفات القرقساني وملامح فكره الديني)


ليست هناك تعليقات