آخر المقالات

يعقوب القرقساني وكتابه الأنوار والمراقب (2) Ya'qub al-Qirqisani

عدد مشاهدات الموضوع:

 

المقالة الثالثة، نهاية الباب السادس، بداية الباب السابع (في إثبات الثواب والعقاب من التوراة وغيرها من سائر كُتُب الأنبياء)

(The British Library, Or. 2524)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد ..،

عرضنا في المنشور السابق نبذة عن حياة يعقوب القرقساني أحد أبرز علماء اليهود القرائين في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي. ويمكن مراجعة المنشور السابق من هنا.

 

ثانيًا: مؤلفات القرقساني وملامح فكره الديني:

ألف القرقساني عددًا من الكتب ودونها جميعًا باللغة العربية، وهي على النحو التالي:

1)    كتاب (الأنوار والمراقب): سنتناوله لاحقًا بشيء من التفصيل؛ إذ يعد أهم كتبه.

2)    كتاب في إفساد نبوة محمد:

أشار القرقساني في أكثر من موضع في كتابه (الأنوار والمراقب) إلى تأليفه كتابًا مجردًا في الرد على المسلمين وبيان فساد نبوة محمد –عليه الصلاة والسلام–؛ إذ يقول بعد ذكره عددًا من المطاعن والشبهات في هذا السياق (2/301): "فهذا ما يحتمله الموضعُ من ذِكْر ما عليهم وقد استوفيتُ ذلك بابًا بابًا في الكتاب الذي أَلَّـفْتُهُ عليهم وذكرتُ فيه أيضًا مَسَائِلَ جَرَتْ بيني وبين قوم من مُتَكَلِّمِيهِم فَمَنْ نظر فيه وَقَفَ على ضعْف أمرهم وَوَهَائِهِ وَازْدَادَ يَقِينُهُ بِإِلَهِ إسرائيل وبشريعته التي هي توراتُهُ".

ويكشف هذا النص –على الرغم من فقدان الكتاب المشار إليه– عن مدى عناية القرقساني بقضية النبوة وحجيتها، ودحضه لاعتقاد المسلمين فيها، كذلك فيه تصريح مباشر بالاحتكاك والمناظرة والحوار مع متكلمي الإسلام.

3)    كتاب في القول على الترجمة:

وهو كتاب جرده للقول في طريقة ترجمة التوراة من لغة إلى أخرى.

4)    كتاب (الرياض والحدائق):

وهو شرح على التوراة، يختص بغير الفرائض، ولذلك أطلق عليه أيضًا "في شرح معاني التوراة، التي هي غير الفرائض". وانتهى من تأليفه عام (326هـ / 938م).

5)    كتاب (التوحيد):

كتاب فلسفي يناقش وحدانية الله وروحانيته ومبادئ الإيمان.

6)    تفسير أيوب.

7)    تفسير الجامعة.

وربما ترجم أسفار المقرا (العهد القديم) إلى اللغة العربية، غير أن هذه الأعمال لم تصل إلينا.

 

تكشف أعمال القرقساني عن أنه كان متبحرًا في الأدب العربي العلمي واللاهوتي والفلسفي المعاصر له. وعلى الرغم من تبنيه رأيًا مفاده أنه لا يمكن فهم التوراة إلا بمعرفة اللغة العبرية، وذلك بفهم كلماتها وقواعدها وأسلوبها بشكل كامل، فإنه لا يؤكد على ضرورة تعلمها، ويقول إن اللغة والخط ليست لهما قدسية؛ إذ يمكن للإنسان أن يصلي ويقسم بأية لغة يجيدها. كما أنه شجع القرائين على دراسة التلمود من أجل معرفة النقاط الضعيفة فيه، كي يستعمل فهمه في الجدل مع التلموديين.

علاوة على ذلك، فقد كان القرقساني من القرائين الذين يشجعون على دراسة الفلسفة وعلم الكلام، بل ومن الذين يحثون على الاجتهاد في استنباط الأحكام. ومن ثم، يبدو أن القرقساني كان مهتمًّا في المقام الأول بانتصار التحقيق العقلاني في المناقشات الدينية؛ أي إن الطائفية ليست مهمة في السعي إلى الحقيقة الدينية، وأن كل فرد مسؤول عن البحث عن الحقيقة الدينية وتقييم كتابات جميع المفكرين، سواء أكانوا ربانيين أم قرائين؛ فيقول في صدر كتاب "الأنوار والمراقب": "... وإنّما يجب أن تُتّخذ الفرائض بالبحث والنظر. فكلُّمَا أوجبه النظرُ، وَسَاقَ إليه البحث، كان هو الذي يجب اتّخاذه مِنْ قَوْلِ مَنْ كَانَ: إمّا الربانيّين، وإمّا «عانان»، وإمّا غيرهما. نَعَمْ، ولو ظهر للبَحَّاث النَّظَّار قولٌ لم يَقُلْ به أحد بتّةً –لَوَجب قُبُوله بَعْدَ أن لا يكون عليه طعنٌ، ولا يلحقه فساد".

بعبارة أخرى، يُلاحظ أن معتقدات القرقساني الدينية تستند في الأساس إلى التكهنات العقلانية، أو أهل النظر والبحث. يعتقد القرقساني أن التكهنات صحيحة لأنها إما تثبت ما هو معروف حدسي صحيح؛ لأن رفضها يؤدي إلى الجهل، أو لأن المعرفة المكتسبة من التكهنات تصبح ضرورية، بقدر ما تقوم على المعرفة البديهية السابقة.

وأغلب الظن أن القرقساني قد صدر كتابه بقوله هذا –متأثرًا بالمعتزلة– بسبب معارضة الشخصيات الربانية المعاصرة له؛ لا سيما سعيد بن يوسف الفيومي، الذي رد عليه في غير موضع من كتابه هذا؛ ذلك أن هؤلاء الربانيين يعتقدون أن التكهنات العقلانية محظورة لأسباب دينية؛ لأنها أدت إلى بدعة، وكانت باطلة أو غير متسقة على أسس منطقية.

وبالنسبة إلى القرقساني كانت التكهنات العقلية ضرورية لفهم الجوانب الغامضة في الكتاب المقدس. فهو لم يعلق على سبب غموض بعض جوانب الكتاب المقدس أو حَرفِيَّتِها، ولكنها كانت تسبب له إشكالية. إنه يرى أن التعبيرات الغامضة قد تؤدي إلى آراء خاطئة أو قد تضلل القارئ في فهم فقرة مختلفة. ومن ثم، كان يعتقد أن الطريقة الوحيدة لفهم التفسير غير الحرفي للكتاب المقدس هو من خلال التكهنات العقلانية. وقد استنتج القرقساني من خلال تفسيره للنصوص الكتابية ما كان يعتقد أنه وصية لتنفيذ التكهنات العقلانية.

ونكتفي بهذه السطور في هذا الموضع، على أن نبين لاحقًا بعض جوانب تأثر القرقساني بالمعتزلة.

 

 يُتبع (ثالثًا: كتاب الأنوار والمراقب؛ أهميته ومضمونه)


ليست هناك تعليقات