آخر المقالات

كيف بدأ الدين؟ (بدائيون ولكن)

عدد مشاهدات الموضوع:

 



ما زالت الفكرة السينمائية عن حياة إنسان بدائي في الكهوف راسخة في العقول؛ إذ إننا دائمًا ما نتخيل كائنًا ذا شعرٍ كثيف يحاكي صوته صوت الحيوانات ويطلق صرخاته في الأرجاء، وهذا الإنسان في تصور من ابتكر شخصيته ما هو إلا صورة أولية لإنسان الحضارة والمدنية، لكن هل تظن أن هذا كان مجرد رأي ولم يضع له أصحابه غلافًا علميًا ليكون مقبولًا.

إن فكرة إضفاء القداسة على شيء ما موجودة منذ قديم الزمان، وفي عصرنا الحالي باتت الصيغة المقدسة أن تقول فقط (أثبتت الدراسات وقال الباحثون) أي أن تضفي على رأيك مسحةً من العلم وإن كان زائفًا فقط لتبث في السامعين الخضوع لذلك الصنم الكبير الذي نحتوه ونسبوه زورًا للعلم، فمصطلح العلم مصطلح فضفاض يصعب حصره في مجالٍ بعينه، بل إن أولئك الدجالين الذين يضعون البلورات وكروت قراءة الطالع يقولون لزبائنهم إنه «علم دقيق» وهذا ما فعله فريق من الباحثين حسب ما أشار إليه الدكتور علي النشار في كتابه (نشأة الدين) فقال: «الفكرتان الرئيستان المسيطرتان على النظريات الدينية، هما فكرة التطور وفكرة التوحيد أو الوحي الأول، وبين الفكرتين تنازع مطلق في السيطرة على تلك النظريات وإمدادها بالأساس التي تستند عليه» وتناول بعد ذلك نقد النظرية التطورية في الأديان والتي ترى أن الفكر الإنسان بدأ من الدنو إلى السمو، ومعه فكرة الدين حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن وبالفعل أجروا عددًا من الدراسات لدعم فكرتهم حيث وضعوا التطوير البيولوجي مقياسًا لتطور الدين، وأكدوا أن التطور بدأ مع الحياة الساذجة البسيطة لتصل إلى ما هي عليه الآن.

لم يرق هذا الكلام مجموعة أخرى من الباحثين وهم الذين أيدوا جمعية الدين وعلى رأسهم المدرسة الفرنسية الاجتماعية في مطلع القرن العشرين، وظهرت على الساحة فكرة الوحي وهي ليست جديدة لكن أصبح لها من يؤيدها في هذه الأوساط العلمية التي أخذت من الدين مادة للدراسة حتى وإن رأوا فيه مجرد أوهام، وهذه المجموعة التي أيدت فكرة الوحي اعتمدت على أن فكرة الإله موجودة في مختلف القبائل «البدائية» ناهيك عن النظريات الأخرى التي تتحدث عن عبادة الطبيعة والأسلاف والتي اعتمدت على الأسس السيكولوجية وتحليل الرؤى والأحلام، وهنا يعترضنا سؤال مهم، ما لغة البدائيين؟!

إن الحديث عن اللغة عند تناول نشأة الدين ليس مجرد حشو أو خروج عن المضمون، فعندما ناقشت أحدهم في بداية الدين وهو غير مؤمن تمامًا سألته عن اللغة، فلما سمع سؤالي كانت ضحكات السخرية تخرج من فمه كأنه يعلن انتصاره على قلة حيلتي، لكن بعدما عرضت التفاصيل عليه لم يحرك ساكنًا! إن نظريات علم اللغة بحثت في أول لغة إنسانية على هذه الأرض، ومما يميز الحقل اللغوي خلوه أحيانًا من العقبات الموجودة في الجانب الديني؛ فأنت تمارس الدراسة بحرية كاملة وتضع النظريات دون الخوف من ردود الأفعال، ومن هنا ننطلق، ونضع سؤالًا آخر، كيف تكلم الإنسان البدائي؟!

إن اللغة الإنسانية الأولى محل خلاف بين الباحثين؛ فالبعض يرى أن المحاكاة هي الأصل، والبعض يرى أنه صناعة الحكماء البدائيين من سادة القبائل، وهناك من يؤيد نظرية الإلهام، وهنا يجب أن نلتفت إلى أن اللغة لابد لها من معلمٍ أول، فإذا وافقنا أصحاب نظرية المحاكاة وهي التي تنادي أن الإنسان قلد أصوات الطبيعة؛ فإن الطبيعة هي معلمه، وإن نظرنا إلى القائلين بالإلهام فإن معلمًا أعظم وأكبر تولى تعليم ذلك الإنسان كيف ينطلق لسانه بالكلام، وهذا ما أراه صحيحًا ويمكن أن أسميه نظرية «المعلم الأول»

لن أتطرق في اللغة كثيرًا وأعود إلى الدين مرة أخرى وأختم به حديثي، إذا اتفقنا أن اللغة لابد لها من معلمٍ أول؛ فلما لا يكون الدين كذلك، وأن الإنسان تلقى الدين من معلمٍ أول وباتت فيه فطرة التدين التي تراها من حولك في كل إنسان، تلك النزعة التي تجعله يقدس أشياء ويدنس الأخرى، تلك النزعة التي تجعله يقدم روحه فداءً لها باختلاف مسمياتها؛ فإن النزعة الدينية ليس من الواجب أن تكون اتباع شخص لدين، بل يمكن أن تكون اتباع منهجٍ فكريٍ معين وتصل التبعية فيه حد الاعتناق؛ فحتى أولئك اللادينيين عندهم هذه النزعة، وإلا فلماذا يحاربون لنشر أفكارهم الإلحادية، إن لم يكونوا يرون فيه قداسة تستحق التضحية؟! نستخلص من المقال مجموعة من النقاط:

1-    الدين فطرة في كل نفسٍ بشرية على هذه الأرض باختلاف معنى الدين فكل من اتخذ شيء مقدس يتقرب منه ويفزع إليه وقت خوفه فهو يتبع سلوكًا دينيًا.

2-    اللغة الإنسانية الأولى لم تنشأ من قبيل الصدفة والمحاكاة فقط بل يوجد معلم أول للإنسان علمه كيف يتكلم ويستعمل جهاز النطق.

3-    النزعة الدينية موجودة وأشار إليها بعض الباحثين في القرن التاسع عشر ومنهم باحث علم الاجتماع الفرنسي (غوستاف لوبون)

 

ليست هناك تعليقات