آخر المقالات

يعقوب القرقساني وكتابه الأنوار والمراقب (3) Ya'qub al-Qirqisani

عدد مشاهدات الموضوع:

المقالة الحادية عشرة، نهاية الباب الخامس والعشرين، بداية الباب السادس والعشرين (في اليبوم وحكاية احتجاج مَنْ خَالَفَ فيه مذهب الجماعة)

(The British Library, Or. 2578)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد ..،

عرضنا في المنشورين السابقين نبذة عن حياة يعقوب القرقساني، أحد أبرز علماء اليهود القرائين في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، وكذلك ألقينا الضوء على مؤلفاته وملامح فكره الديني. ويمكن مراجعة المنشورين السابقين من هنا (حياته) وهنا (مؤلفاته).

 

ثالثًا: كتاب الأنوار والمراقب (أهميته ومضمونه):

يعد كتاب "الأنوار والمراقب"، الذي انتهى القرقساني من تأليفه عام (325هـ / 937م)، أهم الكتب التشريعية لفرقة القرائين اليهودية؛ إذ إنه أكثر الأعمال التي وصلتنا شمولًا لمؤلف من فرقة القرائين من هذه الفترة التاريخية. ويتناول الكتاب الحديث عن جل التشريعات اليهودية حسب فرقة القرائين، علاوة على موضوعات فلسفية وتاريخية. وإلى جانب مناقشة آراء سعيد الفيومي والربانيين، يشتمل الكتاب كذلك على مناقشات لعقائد النصارى والمسلمين.

وحول أهمية الكتاب، يقول الأستاذ الدكتور/ أحمد هويدي (2019م): "لا يقل كتاب الأنوار والمراقب أهمية عن كتب العلماء المسلمين في مجال الفرق والملل والنحل، وأيضًا كتب الفقه وكتب علم الكلام والفلسفة، فكتاب الأنوار والمراقب يعد بحق موسوعة في كل هذه الفروع العلمية؛ فيتناول التأريخ للفرق اليهودية وتفرّد كل فرقة، والاختلافات بين الفرق، وفيه مناقشات لعقائد النصارى والمسلمين، وفيه شرح واف عن نشأة القرائين ومذاهبهم المختلفة. والأهم من ذلك أنه ناقش آراء سعديا الفيومي بصفة خاصة، والربانيين بصورة عامة. كما يشمل الكتاب آراءً فلسفية وكلامية وعقائدية وفقهية".

ومن خلال هذا الكتاب، نستطيع الوقوف على الفكر الديني لأحد أبرز علماء القرائين خلال العصر الذهبي لفرقة القرائين. والكتاب مدون باللغة العربية التي اعتاد القراؤون استعمالها بعد القرقساني في معظم كتاباتهم التي ظهرت في بلاد الإسلام، والتي كانت تُستعمل بشكل أكثر شيوعًا في المؤلفات التي تتعامل مع جمهور عام أوسع، مثل: العلوم الطبية أو الفلسفة.

ويتألف الكتاب من 13 مقالة، تختص كل مقالة ببحث قضية معينة، وتحتوي كل مقالة على عدد من الأبواب. ويشتمل هذا الكتاب على 496 بابًا. وقد أبان القرقساني موضوعات مقالات الكتاب في صدره، على النحو التالي:

المقالة الأولى وهي: صدر الكتاب.

المقالة الثانية: في إيجاب البحث والنظر وإثبات حجّة العقل.

المقالة الثالثة: في الردّ على الأفاريق وأقاويلهم.

المقالة الرابعة: في الوُجُوه والأسباب التي يُوصَل بها إلى معرفة الفَرَائِض.

المقالة الخامسة: في الختانة والسبت.

المقالة السادسة: في شرح تسع فرائض.

المقالة السابعة: في رؤوس الشهور وطلب الربيع.

المقالة الثامنة: في عيد الأسابيع وفي وقت الأصيل.

المقالة التاسعة: في الكلام على سائر الأعياد، والفرق بين العيد والسبت في العمل.

المقالة العاشرة: في طمأ (نجاسة) الحيوان والناس جميعًا.

المقالة الحادية عشرة: في الفروج التي هي المحارم، وفيها ذكر اليبوم (زواج الرجل بأرملة أخيه العديم النسل).

المقالة الثانية عشرة: في جميع ما يُحَرَّم من المَآكِل، وكذلك ما يُلبس وما يُزرع، وفيها ذكر أهداب الثياب.

المقالة الثالثة عشرة: في المَوَاريث.

أما بالنسبة إلى مضمون الكتاب بشكل عام، فيمكن تقسيمه إلى ثلاث قضايا رئيسة: قضايا تاريخية، وقضايا فلسفية، وقضايا دينية.

تتكون المقالة الأولى من 19 بابًا. ويعرض القرقساني في هذه المقالة وصفًا مفصّلًا للفرق اليهودية من يربعام حتى ظهور فرقة القرائين. وفي هذه المقالة، أكد القرقساني أن بداية ظهور الفُرقة والخلاف بين بني إسرائيل تعود إلى زمن يربعام أول ملوك مملكة إسرائيل الشمالية المنشقة عن مملكة إسرائيل الموحدة، ثم توارثت الفرق بعد ذلك الرُّخص التي ابتدعها وخالف فيها نص التوراة.

ابتدأ القرقساني عرضه بالحديث عن فرقة السامرة، وذكر أنه قد ظهر بعدهم رؤساء الجماعة وهم الربانيون، الذين عدَّهم ورثة المذاهب والرُّخص التي ابتدعها يربعام، وأنهم ثبتوا هذه البدع واحتجوا لها ودوَّنوا فيها المشنا.

أورد بعد ذلك الحديث عن ظهور الصدوقية، وفرقة تسمى المغارية، ثم ظهور عيسى بن مريم –عليه السلام– في زمان الهيكل الثاني. وذكر القرقساني أن الربانيين احتالوا على عيسى –عليه السلام– حتى قتلوه وصلبوه –على حد زعمه.

ثم يذكر أنه قد ظهر بعد ذلك أبو عيسى الإصفهاني الذي كان على أيام عبد الملك بن مروان وادّعى النبوة، وعُرف أصحابه بالعيسوية. وقال إنه قد ظهر بعد ذلك يُودْغَان الذي ادّعى النبوة أيضًا، وأصحابه يزعمون أنه المسيح. وأنه قد ظهر بعد ذلك عنان بن داود في أيام أبي جعفر المنصور، ثم يذكر بعد ذلك عددًا من الشخصيات القرائية التي ظهرت في أيام المعتصم بالله.

وبعدما ذكر القرقساني هذه الفرق، تناول ما تفرَّدت به كل فرقة من الفرق. فذكر ما تفرَّد به الربانيون عن جميع الفرق اليهودية، مؤكدًا أنهم توارثوا الخلاف الذي أظهره يربعام في الدين، ومبينًا تناقض أقوالهم مع نصوص التوراة. ومن أهم ما ذكره في هذا الباب: قولهم في تشبيه الإله وتجسيده، وقولهم إن التوراة التي في أيدي اليهود ليست التوراة التي أتى بها موسى –عليه السلام– وإنما هي من تأليف عزرا، علاوة على تفرُّد الربانيين بأمور خاصة بالصلاة، والسبت، والختان، وغيرها. واختتم حديثه عنهم بأنه اقتصر على ذكر بعض أحكام الربانيين الفاسدة التي تؤدي إلى الكفر والإلحاد، وذلك خشية الإطالة.

بعد ذلك، أوضح القرقساني ما خالف فيه السامرة قول جميع اليهود، مثل أنهم لا يؤمنون بنبي غير موسى ويشوع –عليهما السلام–، ولا يعترفون ببيت المقدس، وقبلتهم إلى شكيم (نابلُس حاليًا) التي يقع فيها جبل جرزيم. ثم ذكر ما خالف فيه الصدوقية والمغارية جميع الفرق اليهودية.

وفي الباب الثامن من المقالة الأولى، تطرق القرقساني إلى أقوال اليهود في يسوع، وأخبر أن دين النصارى في عصره إنما هو مما ابتدعه بولس، الذي جعل من يسوع إلهًا، وادعى لنفسه النبوة، وألغى الأحكام. كما عرض القرقساني في هذا الباب عقيدة النصارى في التثليث والتجسيد والأناجيل الأربعة.

ومن أقواله: "فأما دِين النصارى الذي هم عليه الْآنَ، فإن «فَوْلُص» هو الذي ابتدعه وأظهره، وهو الذي أَنْحل «يسوع» الربوبيّةَ، وادّعى لنفسه النبوّة مِن «يسوع» رَبِّهِ، ولم يَأْتِ بفريضة بتّةً، ولا أوجب على أحد شيئًا بتّةً، وزعم أن الدِّين إنما هو التَّوَاضُعُ فَقَطْ ... فأما دين النصارى الذي هم عليه الآنَ، فإنه إِلحاد قائم؛ وذلك أنهم يزعمون أن البارئ جَوْهَرٌ واحدٌ ثلاثةُ أقانيم، وأنه واحدٌ ثلاثةٌ، وثلاثةٌ واحدٌ؛ لأنه عندهم حيٌّ عَالِمٌ، فالحياة والعلم صِفَتَانِ للجَوْهر: فالجوهر قُنُوم والصِّفَتَانِ قُنُومَانِ؛ فلذلك صار ثلاثة أقانيم".

وفي الأبواب التالية، تحدّث القرقساني عن الاختلافات بين ربانيي الشام وربانيي العراق، وأن تلك الاختلافات تقترب من خمسين اختلافًا. وأعقب ذلك حديثه عن أقوال أبي عيسى الأصفهاني، ويودغان، وما تفرد به عنان ومن تابعه. ثم اختتم المقالة بسرد ما يختلف فيه القراؤون في عصره.

أما المقالة الثانية فتشتمل على 28 بابًا. أوجب فيها القرقساني على كل فرد البحث والنظر لاستنباط الأحكام. كما حرص على الرد على من وصفهم بالمُشَبِّهَة من الربانيين، وذكر قوله في الإجماع وإثبات حجة العقل. واعتمد في آرائه على تقديم الأدلة العقلية والكتابية.

خصص القرقساني المقالة الثالثة، التي تتكون من 25 بابًا، للرد على الفرق اليهودية، وكذلك للرد على المسيحية والإسلام. وقد بدأها بالرد على السامرة في جحودهم سائر الأنبياء الذين بعد يشوع. ثم انتقل للرد على النصارى في قولهم في التثليث. وبعد ذلك، ذكر ما جمعه من أدلة من التوراة على إثبات الثواب والعقاب، ورد على من أنكر حدوث البعث والحساب. وخصص الباب الخامس عشر للرد على المسلمين ونبوة محمد –عليه الصلاة والسلام–. وأفرد الباب السادس عشر للرد على نبوة عيسى بن مريم –عليه السلام. وفي الأبواب التالية، تناول الرد على عدد من الشخصيات القرائية.

وبالنسبة إلى المقالة الرابعة، فإنها تتكون من 68 بابًا. وتتناول هذه المقالة الوجوه والأسباب التي يمكن بها الوصول إلى معرفة الفرائض.

وبعدما ذكر المقالات الأربع، أكد أنه بذلك قد أنهى ما رآه أنه من الواجب أن يذكره، وأنه سيشرع في المقالات التالية في شرح فرائض التوراة. ومن ثم، فقد خصص المقالات من الخامسة إلى الثالثة عشر لشرح أحكام الختان، والسبت، والتسع فرائض، والأعياد، والطهارة والنجاسة. واختتم كتابه ذلك بالحديث عن المواريث وما يتعلق بها من أحكام في اليهودية.

 

ونتناول في المنشور القادم –إن شاء الله– الاهتمام العلمي بالكتاب.


ليست هناك تعليقات